رجال الطريقة الخلوتية

عبد اللطيف بن حسام الدين الحلبى

العارف بالله تعالى سيدى الشيخ/ عبد اللطيف الحلبى

رضى الله عنه

 

     هو: سيدى العارف بالله تعالى عبد اللطيف بن حسام الدين الحلبى الخلوتى, الأستاذ المرشد المسلك العارف الكامل الأوحد الناسك، نزيل دمشق، كان في طريق القوم ممن اشتهر وساد، ولد في حلب وإليها نسب وتقع حلب فى دولة سوريا حاليًا، كان والده صالحًا إلى الخير يسابق، حكى الشيخ عبد اللطيف عن والده حسام الدين أنه قال: منذ وعيت على الدنيا لا أعلم أنى ارتكبت كبيرة، رسمه التمسك فى الدين إذ اسمه حسام الدين، توفى والد الشيخ عبد اللطيف وهو صغير السن، ولما شب وترعرع أضحى للسياحة يحن ومقصده الاجتماع بالصالحين ومحبة الفالحين، دعاه داعي الغرام صغيرًا فلباه، له فى حب الله وله شديد ,أخبر سيدى الشيخ مصطفى البكرى رضى الله عنه أنه قال: أنه رأى مرة اسم الجلالة الكريم على حائط بخط غليظ جسيم، ثم أنه أطال النظر إليه فاستغرق فى عظمة الذى دل الاسم عليه، حتى غاب عن إحساسه ووقع على أم رأسه وصحا بعد برهة من الزمان، وكأنه أُسقى كؤوسًا من عتيق الدنان وحصل على غيبة عند زيارته المولى جلال الدين الرومى رضى الله عنه (هو الشيخ محمد جلال الدين الرومي), واستأذن والدته فى السياحة وطلبه منها أن تهبه لله فامتنعت, ثم أجابته رحمها الله تعالى، ثم زار بلاد الروم هى حاليًاً- بلاد تركيا– واشتغل فيها بتجويد القرآن حتى بلغ آماله، ثم عرض عليه بعض أصحابه أن يكون في طريقة الموالى فأبى, ثم صار إلى مصر المحروسة وبخاصة القرافتين(القرافة الكبرى والقرافة الصغرى), ومن ثم حل واديها فزارها واجتمع على علمائها الأعلام ، وصار الشيخ يجاهد نفسه حيث لم ير مرشدًاً وأحب كل منتم لله, حتى أن كل من لقيه يحبه فى الله وهذه نعمة من أكبر النعم, ودب فى نفسه ديوان على شبلى قدس الله سره, وابتدأه من أوله حتى أتى على آخره, ولما دخل شهر صيام ذلك العام كان يختم في الليلة واليوم ختمة ويتمها آخر الليل, ورأى ليلة القدر وأصبح مسرورًا, وأخبر بذلك الشيخ الخرشى(هو الشيخ محمد بن عبد الله بن علي أبو عبد الله الخرشى المالكى, ولد 1010هـ وتوفي 1101هـ, له من التصانيف: شرح مختصر خليل فى الفروع وغير ذلك (هـ6/237)), فقال: هنيئًا لك قد ظفرت بليلة القدر، وكان له أشياخ عليهم ويمشى إليهم منهم الشيخ الخرشي والشيخ على الخواص خادم الحسين رضى الله عنهما، وكان دأبه العثور فى الظاهر على مرشد يهتدى بسيره وسره الطاهر، ثم بعد مدة توجه إلى زيارة مولانا الحسين رضى الله عنه, واجتمع بالشيخ على الخواص وجلس عنده واجتمع مع الشيخ على السيرجانى الأحمدى الدمياطى ودار بينهما كلام من كلام أهل الحقيقة، ثم دعاه الشيخ على السيرجانى للدخول فى الطريقة الأحمدية فأجابه بنفس طايعة مهدية، وبعد مدة انتقل الشيخ السيرجانى إلى الدار الآخرة، فحزن الشيخ لذلك حزنًا شديدًا، ثم لما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يمن عليه بالحج وبعد أداء أركان الحج آثر الإقامة فى الحرم, فبينما هو جالس، إذ أقبل عليه الرجل من أهل الصلاح وقال له: اسمع منى بعض ما قرأته من أحزاب وإن أخطأت فردنى صوب الصواب, فإنى أخشى اللحن فى الإعراب، وكان لتنكره قد عد لنفسه من أهل الأعراب، فما حرف كلمة عن موضعها ولا أوردها غير مشرعها ومنبعها، فتنبهت أنه من أهل الحال، أو أحد أقطاب تلك المحال ولما عرفت رتبته قلبت ركبته، وقلت يا سيدى أريد المسير إلى بلاد اليمن لكن أرى مرشدًا يخرجنى من ضيق العطن, فإن طلبته لم أجده, فقال الشيخ ففتح فى عينيه وقال لى: إرشادك بمصر ومرشدك بمصر، فقلت له: ألم أر ذلك، فقال: الأعمى لا يبصر، ثم انصرف عنى وابتلج صدرى إلى التوجه نحو مصر, وقلت ومن حيث ظنى ليس فيها مُسَلِّكًا على طريقة الصوفية، إلا بالسادة الدمرداشية(نسبة إلى الشيخ دمرداش المحمدي فرع من الروشنية الخلوتية له قبر في مصر), فذهب الشيخ إلى مصر وجلس عندهم منتظرًا فيض الوهاب لكن لم يسبق له فى أم الكتاب أن يدخل منهجهم، بل يدخل فى تربية شيخه الشيخ مصطفى الرومي، وهو في هذا الحال، دخل عليه الشيخ  مصطفى الرومى خلوته الأدرنوى وكان الشيخ عبد اللطيف يعرف الشيخ مصطفى من حيث الظاهر لا من حيث حاله الباطن وسره الزاهر الطاهر، فسأله عن مراده وما له قصد ولم يدر أنه الماهر الذى لنجم سعده رصد, فأخبره بمطلوبه وأعلمه بمرغوبه قال: فرأيته أدخل رأسه في الزيق وكأنه استأذن من صاحب المحل أدبًا من أهل الطريق ثم قال الشيخ مصطفى الرومى: يمكن أن تحضر عندنا ليلة الثلاثاء وإذا حضر ذكرنا وأعجبناك أعطيناك الطريق, فقبل مشورته لما أثر كلامه فى قلبه وتوجه إليه وأخذ عنه الطريق 1103هـ ولازم الخدمة  من غير كبوة والشيخ يربيه ويحبيه ويحميه كما تحمى ولدها اللبوة, وبعد مضي مدة لما أخذ الاسم الأول لقنه الاسم الثانى، وأمره بالجد دون توانى وأخبر الشيخ عبد اللطيف ابنه فى الطريق الشيخ مصطفى البكرى، أن ورده فى الذكر تلك الأيام المسرة يقارب مائة الف مرة, وحصل له فى الاسم الثانى فيض ربانى, وكشف نورانى, ورشق إحسانى، ثم لقنه بعد خلوة الاسم الثالث، وأعطاه كتاب الإنسان الكامل للعارف عبد الكريم الجيلى وقال له: طالع فى هذا الكتاب وإذا توقفت فى فهم مسألة فتوجه إلى الفتاح الوهاب, ولما رأى شيخه قلبه قد انفح سُرَّ به وحق له يسر لأنه يجده فى ميزانه يوم الحشر, حتى كان إذا جاءه أحد بسؤال شريف يقول: اذهبوا إلى لسان حال  الشيخ عبد اللطيف, وكان شيخ مصطفى الأدرنوى يقول لجماعته: الشيخ عبد اللطيف جاء مثل الصوفان أول ما قدحنا عليه علق, وكان فى أثناء سلوكه وسيره ورد مصطفى أفندى أحد خلفاء الشيخ على قره باش نزل مصر فى التكية، كان من المحققين وممن أعطي حلاوة تقريره وطلاوة تعبير, وكان شيخه يأمره بصحبته والانتفاع بقربه ومحبته, ولما أراد شيخه أن يأذن له بالإرشاد أدخله خلوة تسعينية فى جامع الجلاد (يطلق عليه حاليًا جامع الجلادين بمنطقة بولاق أبى العلا غرب السبتية), واختلى مع شيخه فى هذا الجامع أربعة أعوام، واختلى به خلوات عديدة وكانت إمداداتها وافرة جديدة، وأوصاه شيخه بحفظ حرمة الزيق, ثم أوصاه بحفظ ناموس الشريعة, ثم انتظم الشيخ فى الطريق وقام بالشروط والآداب ودخل الخلوة كثيرًا، ثم أذن له شيخه بالذهاب إلى بلاد الشام فتعلل الشيخ عبد اللطيف بوجود المنكرين وأنه يريد بلاد الروم– تركيا– فلم يأذن له إلا على الشام، فرحل إلى المنازل الشامية وذلك 1107 هـ أو 1108 هـ, ولما وصل أخذه بعض الناس إلى قرية برزه، فمكث عندهم مدة يصلى بهم إمامًا، ثم رحل إلى مديره وأقام بها أعوامًا وكان لكلامه تأثيرًا فى القلوب, وزاره شيخ التكرية المولوية فأدخله بيت خلوته البهية، فأقسم الشيخ المولوى أنه رأى فيها من الأنس والراحة ما قل أن يدخل فى راحة, وأنه لم يطلب على قلبه الخروج، ولا الارتحال بالقالب عنها، ولما زادت طلاب النصايح حتى صار ينقطع طريق المار من كل غاد ورايح دخل جامع السادات القريب إليه، وأقبلت الناس من كل فج عليه, وكان إذا غلب عليه الحال وفاض منه الأنا يقول : من أراد الحق فليأتنا, وبعض الأحيان يقول: الحق هنا، الحق هنا، فحولها بعض المنكرين ممن لم يخش عاقبته ماجنًا, وربما سئل بعض الطلبة ممن ليس له إطلاع عليها فيتوقف فى حل معناها، إذ لم يصل بفكره إليها فيظن أن الشيخ أشار عليهم بالامتحان بها والشيخ خلى البال من هذا، وكثر المرج، وقيل فى الشيخ أقوالاً كثيرة لم يقلها، وكان هذا عام أحد عشرة ومائة وألف 1111هـ, سابع يوم من شهر الصيام، ومن حين دخول شهر الصوم إلى ذلك اليوم، فتح الشيخ الذكر بالجماعة وقصد جمعهم على الطاعة حتى أن جامع السادات غص بالناس وطلبوا منه النزول إلى جامع بنى أميه، واختف الشيخ مدة عن الأعين طلبًا لبعض أحبابه ويفعل الله ما يشاء، وزاد البلاء على الشيخ، حتى أن بعض الناس صور سؤالاً فى رجل يدعى دعوا الحلاج فأفتى المسئول بالقتل دون لجاج وأمرت الوعاظ بالتحذير منه والإعراض بالكلية عنه، فاختلى أربعة عشر يومًا بدعوة يا لطيف بالعدد الكبير فحفه اللطف من العلى الكبير, وخرج منها ولم يعترضه أحد بغوث الواحد الأحد، وقال: كنت أفضل الدعوة فى اليوم والليلة مرارًا هذا الكلام، قاله الشيخ للشيخ مصطفى البكرى رضى الله عنه.

 

من كرامات سيدى الشيخ عبداللطيف رضى الله عنه :

        أخبر الأخ المختفى عنده الشيخ وهو الحاج حسن بن فرحات، قال أخفيته فى دار معدة للبقرة كانت دار خارجة فيها بيت يسكن، والباقى لا يعتبر، ولا طريق ماء حتى امتلأت معطل فجرت فيها بحرتها، وعجب من جر مكسور القسطل قال وهذه كرامة لاشك عندى فيها.

 

ومن كراماته أيضا رضي الله عنه :

        قال أيضًا أنى دخلت معه الدار وليس معنا ضوء, فأضاء لنا البيت كالنهار حتى فرشنا محل جلوسه واستقر الشيخ فيه, فعادت العتمة لحالها، وكان وهو فى الخلوة يقسم بعض الناس أنه رآه فى محل كذا وآخر يقول: رأيته فى محل غير الأول وهكذا، قال الشيخ رحمه الله تعالى: وكان يتفق لى مثل هذا وأنا فى بولاق مختليًا قال: وهذا من قوة سلطان الروح على التجرد والانسلاخ والتشكل بأشكال كما يقع للأبدال.

       

ثم طلب منه أن يكون إمامًا فى جامع الجوزه ففعل، ولزم بيته أغلب أوقاته وتردد على جامع بنى أمية كجلسة خطيب أو لأجل أن يقرأ على الشيخ عبد الرحمن المجلد الذي فى اعتقاد مجتهد غير مقلد وهناك اجتمع سيدى الشيخ مصطفى البكرى رضى الله عنه به وشرب منه.

 

        ومن البلاء الذي نزل بالشيخ عبد اللطيف تفرق جماعته عنه ولم يثبت منهم إلا النادر, وكل من تردد عليه من أولئك النفر النافر أو الوارد الصادق أخذ عليه بلزوم الحدود والتقيد بمراسم الشريعة، لما رأى من إنكار أهل الشام عليه، وكان يقول: جزا الله أهل الشام عنى خير, علمونى كيفية الإرشاد, وليس هو الوحيد ممن أنكر عليه بل غيره كثير أمثال الشعرانى والشيخ على قره باش، والشيخ الجنيد وغيرهم رضوان الله عليهم، وحسن الظن بأخيك المسلم هو الأفضل وإياك والإنكار على أولياء الله فقد تحرم الصواب، ولقد صحبه الشيخ مصطفى البكرى نحو خمس سنين فلم ير منه ما يخالف الشرع, وتحقق بطلان ما قالوا فيه، فرحم الله شيخنا عبد اللطيف والشيخ مصطفى البكرى رضى الله عنهما.

 

بعض صفات سيدى الشيخ عبداللطيف الحلبى رضى الله عنه:

        كان رضى الله عنه علِّى الهمة, وافر النجدة والعزمة, يخدم أتباعه بنفسه, ولم ير لها مقامًا ولا حالاً, وكان عنده من جواهر الانكسار ما لا يقدر قدرها جوهرى, رفيع منار يعزل طريق المارة من الوحل، لا ينام إلا على طهارة ظاهرة وباطنة, صافى السريرة عذب المشرب حسن السيرة، مجالسه خير مجالس، يتلطف بإخوانه ويتعطف على خلانه، كانت له مشارعة في عدة فنون، وأخذ عن جملة أشياخ: (إذا رعدت وأبرقت فى التذكير استغرق عن وجودى), كان يقول: (وربما جانى بعض العشاق ليلاً يطلب التكلم معه فى مقامات الطريق, فأجلس معه من أول الليل فما يستفيق إلا والنهار قد خرج), وجاءنى مرة محب وهو فى حال وأخذ ينشدني ويبكي قصيدة بن غانم المقدسى وهى:

يا ساقي القوم من شذاه   ***   الكل لما سقيت تاهوا

فأثر حاله فىَّ، وقال: من لطف الله وعنايته أن أكثر مرضى بالليل, فإذا طلع النهار ارتفع, وكان رحمه الله يغلب عليه حال الشهود والمراقبة، وكان همه عليه فى جذب المريد إلى المراتب السنية.

 

وفاة سيدى الشيخ عبد اللطيف بن حسام الدين الحلبى رضى الله عنه:

توفي حضرة الشيخ فى حلب بسوريا، ودفن فى مقبرة (مرج الدحداح) إحدى المقابر الأثرية فى سوريا, سنة إحدى وعشرين ألف، وذلك فى أول شهر رجب.

 

خلفاء سيدى الشيخ عبد اللطيف:

لم يتيقن من خلفاء له، إلا سيدى الشيخ مصطفى البكرى.

 

رضوان الله تعالى عليهم أجمعين