Sam Eldin الشيخ عبد الجواد الدومى
Alshak Aldumy
دروس قرآنية لفضيلة الشيخ الدومى
الدرس الخامس عشر

  الدرس الخامس عشر

بسم الله الرحمن الرحيم

 

       )وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) [( 1 )

      في السورة السابقة ( 2 ) قرر القرآن الكريم أن الأرض سيأمرها الله سبحانه وتعالي فتتحرك حركة شديدة فتخرج أثقالها وتطرح ما كان في جوفها علي ظهرها ويشتد الهول حتى يقول كل إنسان مالها . عند ذلك تحدث الأرض الناس أخبارها وتخبرهم بكل ما وقع منهم علي ظهرها . عند ذلك يصدر الناس ويخرجون من قبورهم أشتاتاً متفرقين من بيض الوجوه فرحين مستبشرين مسرورين ومن سود الوجوه محزونين فزعين مرغمين . والله تعالي يرى كل إنسان ما فعل من خير وما فعل من شر .

      خوف الله الإنسان بهذه السورة الكريمة . وسبق أن بين الله سبحانه وتعالي جزاء من يخشي ربه في قوله في آخر سورة البينة )ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ[ ( 3 ) لمن خاف يوم ربه ، لمن خاف مقام ربه .

      ولكن الإنسان لم يشكر نعمة ربه ولم يشكره علي هذا البيان ولم يحرك قلبه الإنذار بأهوال يوم القيامة بل استمر في لعبه ولهوه وعصيانه وتركه للطاعات فلذلك أقسم الله سبحانه وتعالي في هذه السورة بخيل المجاهدين علي إن الإنسان لربه لكنود .

      )وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا[ الظاهر كما عليه جمهور المفسرين أن هذه الصفات صفات خيل المجاهدين . وقد نقل عن سيدنا علي بن أبي طالب عنه قوله أن العاديات ضبحاً والموريات قدحا هي ابل الحجاج وهذا القول إن صح فهو مشكل لأن الله تعالي يقول بعد ذلك )فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا[ وهذا لا ينطبق علي ابل الحجاج وهذا يدل علي أن سيدنا علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه لم يقل ذلك لأن الكلام غير معقول ولا مفهوم . وهذا الدفاع عن سيدنا علي خوفاً من أن يتطاول عليه لسان .

      )وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا[ أقسم الله بخيل المجاهدين تعدو مسرعة وبسبب سرعتها في العدو يسمع لها صوت يقال له الضبح وهو صوت يخرج من جوفها ناشئ عن سرعة الجري . فالخيل وهي تعدو مسرعة تضبح ضبحاً . )فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا[ أي والخيل في حال عدوها بسرعة تقابلها الأحجار الصغيرة تحت حوافرها فتكون الحوافر كالزناد علي الأحجار تورى وتظهر ناراً بجوارها . وظهور هذه النار يدل علي أن سيرها يكون في الليل فإذا أقبل الصبح كانوا مغيرين علي العدو )فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا[ . وكانت هذه بعض خطط الرسول (صلى الله عليه وسلم) حين كان يسير بالجيش ليلاً لملاقاة العدو فإذا انقضي الليل وأقبل الصبح اشتبك مع الأعداء . وعند الإغارة وهجوم الفرسان يثور الغبار )فَأَثَرْنَ[ أي المغيرات وقت الصبح )بِهِ نَقْعًا[ أي غباراً )فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا[ أي توسطن جمع العدو أي لم يلبث العدو أن ينظر إلا وقد وجد الجيش في وسطهم .

      بذلك يظهر تسلسل هذه الآيات . أقسم الله تعالي بهذه الصفات وهي صفات خيل المجاهدين وإذا كانت فرس المجاهد لها قيمة عند الله لدرجة أن يشرفها ويقسم بها فكيف بدرجة المجاهد .عند الله أقسم الله بالفرس وأثني علي صفاتها بالعدو والإغارة والسير ليلاً فكيف بمنزلة المجاهد في سبيل الله إذا تعلم أساليب الحرب وحمل السيف وشد الحزام والاستعداد للجهاد . أنها منزلة لا يعلمها إلا الله .

      أقسم الله بخيل المجاهدين )إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ[ وقال )لِرَبِّهِ[ زيادة في التوبيخ والتقريع )لَكَنُودٌ[ أي لجحود. والإنسان من طبعه الجحود لأنك تري بعض الناس يجحد أقرب الناس إليه وهم أمه وأباه . يتجرأ عليهما بالإهانة والعقوق وهما اللذان ربياه صغيراً وقاما علي خدمته وأنفقا عليه قبل أن ينفقا عل نفسيهما . وتري الناس جميعاً يرمون ذلك العاق بالخيانة لأبوية وينسون أن الله تعالي هو الذي خلقه وأودعه في بطن أمه وحفظه في جوفها وأرسل له الغذاء فيها ثم أخرجه من بطنها وأجري له من بين فرث ودم لبناً وأفاض عليه من النعم ما لا يعد ولا يحصي وهو مع ذلك يجاهر ربه بالعصيان والجحود ولا يجد من يلومه علي ذلك ولا من يقول له هذا عيب .

      )إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ[ ومع الأسف فإن الإنسان نفسه يشهد علي نفسه بأنه كنود وجاحد ولذلك قال الحق جل جلاله )وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ[ أي لشهيد علي أنه جاحد وكافر بنعمة ربه لأن الإنسان لا يقبل علي نفسه أن يعامل بالمعاملة التي يعامل بها ربه لأنه لو أحسن إلي شخص وأعطاه صدقة أو كان له فضل عليه فإنه لا يقبل من هذا الشخص ألا يقف له وهو ماش وإن استطاع معاقبته عاقبه علي إساءته . فإذا كان الإنسان لا يقبل ذلك لنفسه فكيف يقبل يعصي الله ويسيء إلي الله وهو الذي غمره بالإحسان والفضل . )وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ[ يشهد علي نفسه أن هذا نقص وأن هذا لا ينبغي وأنه لا يصح له أن يقابل الإحسان بالعصيان . ومع ذلك فهو مع إساءته وعدم امتثاله لأمر ربه يطمع أن يدخله ربه الجنة وهذا تحكم وتبجح كأنه هو الإله . وقد سبق لجده فرعون أن أدعي الإلوهية فهو يشبه جده في ذلك ولكن الله أهلك فرعون وتوعد من يفعل مثله بالهلاك  )كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ[ ( 1 )

      )وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ[ الضمير عائد علي الإنسان وهذا أولي والله أعلم مما قاله بعض المفسرين من أن الضمير عائد علي الله تعالي فكأن الآية فيها وعيد . لكن الأولي أن تجعل الضمائر كلها متصلة ( 2 ) لأن الضمير بعد ذلك في قوله تعالي )وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ[ عائد علي الإنسان . فجعل الضمائر كلها علي نسق واحد أولي وأظهر والله أعلم.

      )وَإِنَّهُ[ أي الإنسان )لِحُبِّ الْخَيْر [ أي لحب المال )لَشَدِيدٌ[ أي لقوي . وهل جمع المال حرام أو نقص . الجواب لا ولكن المفهوم أنك ترى الإنسان في حب المال قوي وشديد يبذل كل جهده في جمع المال فيشتغل في حمل الأثقال طول يومه نظير قروش ولكنه يبخل علي نفسه ويكسل في تسبيحه أو تهليله تنفعه يوم القيامة. فعندما يجمع المالً لينفعه في شرب الخمر أو الزنا أو فعل الموبقات تراه في غاية القوة والنشاط وعند دخول وقت الصلاة تراه في غاية الكسل وعند الصوم يبحث عن فتوي لكي لا يصوم ويقول أن لبدنك عليك حقاً وهذا كذب علي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .

      )أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) [أيجحد الإنسان نعم الله عليه ويقابل الإحسان من سيده بالإساءة منه ويشتد ويقوي عند مباشرته لحظوظ نفسه وعند جمعه للمال لإنفاقه علي شهواته ويتمارض ويتكاسل عن فعل الطاعات ويتجاهل أن الله تعالي سوف يحاسبه إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور )أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ[ إذاً ظرف متعلق بمحذوف يعني أيفعل الإنسان ذلك وينسي أوامر الله وحدوده ولا يعلم أن الله سيجازيه عن الخير والشر إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور ، أن ما في الصدور يحصله الله تعالي ويعلمه ويحاسب عليه )وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ[ ( 1 ) )سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ[( 2 ) فإذا كان الناس لا يرونه وهو يفعل المنكر فإن الله يراه )يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ[ ( 3 ) مع أن الناس لم يحرموا المعاصي ولا يملكون جنة ولا ناراً وإنما الذي حرمها هو الله وهو الذي يجازي بالجنة والنار وسيحاسب الخلق علي ما عملوا .

      أيفعل الإنسان ذلك ولا يعلم أن الله سيجازيه إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور وسيحاسبه علي الصغيرة والكبيرة وعلي الوساوس التي في نفسه وعلي كل ما يجول في خاطره ويتردد في صدره فإن الله سيحصله ويظهره يوم القيامة . فمثلاً الذي خرج من بيته ليشرب الخمر وضاعت نقوده في الطريق فلم يشرب فهذا كأنه شرب الخمر وتكتب له السيئة في صحيفته . ويحاسبه الله عنها يوم القيامة إذا لم يتب في الدنيا .

      الله سبحانه وتعالي خالق الخلق . )أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[ ( 4 ) الله يعلم حال الإنسان وتفاصيل أعماله وكل شيء عنه . )يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا[ ( 1 ) . الله هو الخبير . والخبير هو الذي يعلم دقائق الأشياء وأسرارها وهو القادر علي أن يوقف كل إنسان علي دخائل نفسه يوم القيامة فهو الخبير بحال عبده أكثر من معرفة عبده بحاله )إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ[ .

      وقد سألني بعض أخواني عن المناسبة بين المقسم به في الصورة والمقسم عليه . المقسم به خيل المجاهدين والمقسم عليه بعض أفراد جنس الإنسان الكنود والجاحد . والمناسبة نشرحها إن شاء الله .

      المؤمن والكافر كل منهما من نفس طينة آدم عليه السلام وليس لكل منهما أصل مستقل . فكل إنسان خلقه الله وفيه استعداد للخير والشر وليس عاجزاً عن مباشرة هذا الاستعداد وإلا كان تكليفه عبثاً وتعالي الله عن العبث . فلولا الاستعداد ما أنزل الله كتاباً ولا أرسل رسولاً ولا كلف احد بشريعته . فبعد أن أعطي الله البشر الاستعداد والآلات أرسل الله الرسل ليبينوا للخلق النموذج الذي يسيرون عليه )وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[ ( 2 ) فكان للخلق بعض العذر لو كلفهم الله بشيء وقصروا فيه بدون أن يعطيهم الاستعداد أو يبين لهم الطريق ، ولذلك جعل الله في الإنسان استعداداً للخير واستعداداً للشر وأرسل الرسل وبين علي يديهم الحلال والحرام والحدود وقال )تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا[ ( 3 ) وهذا الأمر للجميع للمسلم والكافر فالكل فيه الاستعداد .

      خلق الله سبحانه وتعالي الجن والأنس وقال )وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[( 4 ) والعبد عليه أن يقوم علي خدمة سيده ومن شأنه ألا يحمل هم الطعام أو الشراب أو الإنفاق علي زوجه وعياله لأن سيده متكفل بكل ذلك . فلو ترك العبد خدمة سيده والتفت لمصالح نفسه فإنه يكون عبد سوء . وهذا ما حصل من الجاحد الكافر بنعمة ربه والذي نسي وأهمل ما أمره به ربه وهو القائل )وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ[ ( 1 )

      تأمل أيها المسلم أن الله خلقك لخدمته وخلق كل هذه المخلوقات لأجلك . فخلق سماء تظلك وأطلع فيها النيرين لأجلك وأسكن فيها الملائكة لأجلك إذ أن منهم الموكل بالوحي لأجلك ومنهم الموكل بالمطر لأجلك ومنهم الحفظة لأجلك وخلق لك الله الأرض لأجلك وأرساها بالجبال لأجلك وأجري فيها الأنهار لأجلك وأنبت فيها من كل زوج بهيج لأجلك وجميع المنافع فيها لأجلك فالكل لأجلك . ومع ذلك فأنت منصرف عن النظر لنعم ربك مشغول بما لا ينفعك ولذلك قال بن عطاء الله السكندري : (اجتهادك فيما ضمن لك وتقصيرك فيما طلب منك دليل علي طمس البصيرة منك) .

      وإذا كانت السموات والأرض وجميع الكائنات قد أطاعت واستمعت لأمر الله فإن الإنسان وحده هو الذي جحد وكفر ولم يستمع . حتى الحيوان الذي خلقه الله ليكون ذلولاً للإنسان كالجمل تراه خاضعاً مستسلماً لقيادة طفل صغير لأن الله أراد له أن يكون ذلولاً مع أنه في قوته يستطيع أن يدوس الطفل بقدميه لو أراد ، فالإنسان الذي خلقه الله وخلق كل شيء لأجله وأكرمه وقال فيه )وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا[( 2 ) ومن تكريمه له أنه لم يجعله من الحيوانات التي تحمل الأثقال .

      هذا الإنسان خلق الله فيه الاستعداد . الكافر والمسلم لديه الاستعداد ولولا الاستعداد ما كلفه الله ولولا التكاليف ما كانت هناك جنة ولا نار .

      فالتكليف للعاجز عبث والله منزه عن العبث . والتكليف من غير ثمرة تترتب عليه كمثوبة الطائع ومعاقبة العاصي عبث كذلك والله منزه عن العبث .

      فلا يعقل أن من يرتكب الكبائر كالسارق والزاني والقاتل لا يجد عقاباً علي فعله ولا يعقل أن الشخص الطائع المستقيم المتصدق لا يكون لعمله ثواب جميل .

      فلو أن الموظف النشيط لم يلق جزاءه والموظف الكسول لم يلق عقابه لكان في هذا ظلم للجميع .

      علمنا أنه بحسب الاستعداد لا فرق بين المؤمن والكافر لكن المؤمن أعطي واتقي وصدق بالحسنى ، أي انه أعطي من نفسه واتقي غضب ربه وصدق أن هناك يوماً ينتظره إن أحسن فله الحسني فأنجز الله له وعده في سابق علمه وهو أن من آمن وفعل الأسباب فله الجنة . وأما الكافر فإنه بخل بحق الله واستغني عن الله وكذب بالآخرة فلذلك استحق عذاب الله في الآخرة .

      وقد سبق في علم الله أن جعل السعيد سعيداً والشقي شقياً . لكن من آمن وصدق سهل الله له أموره ويسر له طريقه إلي الجنة حتى في أمور الدنيا فإن الله تعالي ييسر له أموره ويرضيه ويقنعه بالقليل ويعاقبه في صحته وبدنه وأهله ، والعكس بالعكس .

      وقد خلق الله الاستعداد في أولاد آدم جميعاً فالمؤمن استعمل استعداده فيما يرضي الله فسهل الله له طريق الخير وطريق الجنة مع كونه محفوف بالمكاره . ولابد له من تحمل هذه المكاره والصبر عليها وكما يقولون (ما فيش حلاوة من غير نار) وحلاوة الطاعات وحلاوة التجليات ولذتها لا تحصل إلا بعد بذل النفس والنفيس . وأما الكافر فإنه استعمل واستخدم استعداده فيما يغضب الله فكانت ثمرة عمله العذاب والعياذ بالله .

     وإذا كان الأمر كذلك فنعود إلي المقسم به والمقسم عليه )وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ...الخ  إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [فنجد أن المقسم به خيل المجاهدين والمقسم عليه الإنسان . فما هي الحكمة في جعل القسم بخيل المجاهدين مع أن الظاهر يقتضي أن يكون المقسم به من نوع المنقسم عليه وهو الإنسان كأن يقول والمجاهدين في سبيل الله أن الإنسان لربه كنود ؟ الإجابة أولاً ليشير إلي عظيم مقام المجاهدين في سبيل الله لأنه إذا كان الله قد أقسم بفرس المجاهد ليدل علي أن لها منزلة عند الله فكيف براكبها .

      وثانياً يشير من طرف خفي إلي أن المؤمن المجاهد في سبيل أعلي مقاماً وأرفع منزلة عند الله من أن يقرن في القسم بالجاحد الكفور . بل أن هذا الجاحد الكفور إنما يناسبه ويقارنه فرس المجاهد بل هو لم يدرك فرس المجاهد في سبيل الله . ذلك لأن لها منزله عند الله حيث استخدمت في الجهاد في سبيل الله وصرف استعدادها في سبيل الله أما الجاحد فقد أنكر وجحد ولم يصرف نعم الله عليه فيما خلقت لأجله بل استعمل جوارحه واستعداده فيما يغضب الله . والقسم هنا يشير إلي قول الله تعالي )لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)[ لأن الحيوان سافل والإنسان الجاحد لم يدرك خيل المجاهد . فنزلت منزلة بعض أفراد الإنسان عن منزلة الحيوان . والحيوان سافل فصار الكنود أسفل السافلين . ومن هنا تظهر الحكمة في كون الحق جلا وعلا عدل في القسم بالمجاهد واقسم بخيل المجاهد وللإشارة كما ذكرنا إلي أن المجاهد أرفع منزله من أن يقسم به علي جحود الجاحد فالمجاهد شكور لربه والجاحد كنود لربه ، والمجاهد عمله الصالح يشهد له بالاستقامة والكنود عمله الطالح يشهد عليه بأنه مجرم ، والمجاهد يبذل نفسه فضلاً عن نفسه لحبه في طاعة الله ويقدم روحه في سبيل الله والجاحد يبذل كل شيء لحبه في المال حباً قوياً يجعله منهمكاً بقوة في شهواته وملذاته المحرمة وحظوظ نفسه .

      المجاهد شكر ربه علي نعمه وصرف هذه النعم فيما خلقت لأجله وشكر الخلق الذين أجري الله نعمه علي أيديهم أما الجاحد الكنود فإنه أنكر نعم الله عليه ولكنه لا ينكر فضل الخلق عليه ولا ينكر فضل الخواجات وينسب لهم الفضل ولا يجحدهم (أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري) .

     المجاهد يجاهد في سبيل الله وفي سبيل الذود عن وطنه وعرضه وماله ودينه وأفعاله تشهد له بالصلاح والاستقامة .

      ولكن الجاحد فقد ارتكب المعاصي والإلحاد والبعد عن الطاعات فصارت أفعاله وحركاته وسكناته شاهدة عليه بأنه خارج عن طاعة الله .

      المجاهد قوي في الطاعات بسبب حيه لربه وحبه لما يقربه لربه فحب الله استولي علي قلبه فجعله قوياً في الطاعة قوياً في الجهاد كما قال فيه الحق )أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ[ ( 1 ) أما الجاحد فهو قوي في المعاصي وشرب الخمر والشهوات بسبب حبه الشديد للمال الذي يستعين به علي المنكرات )وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ[ .

      ومن ذلك تظهر المناسبة بين المقسم به والمقسم عليه وظهرت المناسبة في الصفات وتعددها والله أعلم .  



( 1 ) سورة العاديات وعدد آياتها 11 آية

( 2 ) المقصود سورة الزلزلة

( 3 ) آخر سورة البينة

( 1 ) آية 18 سورة المرسلات

( 2 ) المقصود يكون الضمائر متصلة أنها تعود علي شيء واحد

( 1 ) آية 284 سورة البقرة

( 2 ) آية 10 سورة الرعد

( 3 ) آية 108 سورة النساء

( 4 ) آية 14 سورة الملك

 

 ( 1 ) سورة آل عمران                                        

( 2 ) آية 78 سورة النحل

( 3 ) آية 229 سورة البقرة

( 4 ) آية 56 سورة الذاريات

( 1 ) آية 132 سورة طه

( 2 ) آية 70 سورة الإسراء

( 1 ) آية 29 سورة الفتح