Sam Eldin فضيلة شيخنا
الطاهر محمد أحمد الطاهر الحامدى

Alshak Altaher
تأملات فى السيرة ربيع أوّل 1437هـ

تأملات فى السيرة

الفتح الأعظم

                                 لفضيلة الشيخ/ الطاهر الحامدى

 

لو رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو داخلٌ مكة منتصراً لعرفت معنى التواضع لله تعالى ,ولو تخيلته صلى الله عليه وسلم كيف كان وهو على ناقته القصواء وقد طأطأَ رأسَه تواضعاً لله تعالى واعترافاً بفضله عليه حتى أنّ لحيته الشريفة لمست قربوس سرج القصواء.

لكن لماذا نستبق الأحداث ونصل إلى قرب النهاية ولا نتتبع الحدث من أوَّله متسلسلاً,؟ لمْ يذكر لنا التاريخُ سفارةً فاشلةً لأبى سفيان إلا سفارَتَهُ حينَ ذهبَ إلى المدينةِ يطْلُبُ تجديدَ العهد وزيادة المدة والحقُ أنّ الرجُلَ لمْ يشهدَ هذاالتآمرَ الخسيس الذى كادهُ قومُه ولم يرضَ به. كما قال فيما روى عنه: (هذا والله أمرٌ لم أشهدهُ ولم أغب عنه. لا يُحْمل هذا إلا علي فلا والله ما شوّرتُ فيه ولا هويته حين بلغنى) لكنّ قريشاً ندبته للسفارة وكما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حين قال: ((لكأنى بأبى سفيان قد جاءَ يقول جدد العهدَ وزدْ فى المدة وهو راجعٌ بسخطه)), وفشلَ أبو سفيان فى مهمته كما أخبر النبى صلى الله عليه وسلم كانَ واضحاً حتى قالت له قريش حين رجع فاشلاً ـ بخُفى حنين كما يقولون فى المثل ـ قالت له قريش: رضيت بغير رضاً وجئت بما لا يغنى عنك ولا عنا شيئاً , ولعمر الله ما جوارك بجائز ,وإنّ إخفارك عليهم لهيّن, ما زاد على بن أبى طالب أن لعبَ بك تلعُباً, فردّ عليهم فى اعترافٍ ذليل: والله ما وجدتُ غيرَ ذلك,

تروى كتب السنّة أنّهُ لمّا جاء عمرو بن سالم الخزاعى يستنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النبى صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين السيدة عائشة رضى الله عنها صبيحة وقعة خزاعة: ((يا عائشة لقد حدث فى خزاعة أمر)) فقالت ـ ولم تسأل ما الأمر الذى حدث لكنّها أدركت بفطنتها أنّ قريشاً نقضت عهدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأغارت على خزاعة ـ قالت: يا رسول الله أترى قريشاً تجترءُ على نقض العهد الذى بينك وبينهم وقد أفناهم السيف؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ينقضونه لأمرٍ يريده الله تعالى)) فقالت: خيرٍ يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير)).

ويروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا سمِعَ بما أصابَ خزاعةَ قال: ((لا نُصرتُ إن لم أنصر بنى كعب مما أنصر به نفسى)) وذاتَ يومٍ خرجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض حجراته فجلس عند بابها. وكان إذا جلسَ وحده لم يأته أحد حتى يدعوه. ثم قال لأحد أصحابه: ((ادع لى أبا بكر)) فجاء أبو بكر فجلس بين يديه فناجاه طويلاً ثمّ أمَرَهُ فجلس عن يمينه ثم قال لأحد أصحابه: ((ادع لى عمر)) فجاء فجلس بين يديه فناجاه طويلاً فرفعَ صوتَه وهو يقول:( يا رسول الله هم رأسُ الكفر. هم الذين زعموا أنك ساحر. وأنكَ كاهن. وأنك كاذب. وأنك مفترٍ.) ولم يترك عمر شيئاً مما كان يقوله أهل مكة إلا ذكره. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس عن يساره ثم دعى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناسَ فقالَ: ((ألا أُحدِّثَكم بمثل صاحبيكم هذين؟)) فقالوا نعم يا رسول الله فأقبلَ بوجهه إلى أبى بكر وقال: ((إنّ إبراهيم كان ألينَ فى الله من الدهن اللين.)) ثمّ أقبلَ على عمر وقالَ ((إنّ نوحاً كانَ أشدَّ فى اللهِ من الحجرِ وإنّ الأمرَ أمرَ عمر فتجهَّزوا وتعاونوا)) فتتبع الناسُ أبا بكر وقالوا يا أبا بكر إنّا كرهنا أنْ نسأل عمر عمّا ناجاكَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: (قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف تأمرنى فى غزو مكة؟)) قلت يا رسول الله هم قومك. حتى رأيتُ إنّه سيطيعُنى ثم دعا عمر فقال له عمر: هم رأس الكفرِ وأيمُ الله لا تذلُ العرب حتى تذل أهل مكة) وقد أمركم بالجهاد ليغزوا مكة ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث بالمدينة بعد خروج أبى سفيان ما  شاء الله أن يمكث ثم قال للسيدة عائشة رضى الله عنها: جهزينا وأخفى أمرك ثم قال اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا الا بغتة ولا يسمعون بنا الا فجأة ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - زيادة فى الكتمان والحيطة - جماعة من أصحابه أن تقيم على الانقاب - يعنى مداخل الطرق - وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه - وهو صاحب فكرة الغزو - يطوف على الانقاب والحراس فيمر بهم ويقول لا تدعوا أحدا يمر بكم تنكرونه الا رددتموه؛ ووسط هذا الجو المشحون بالتجهز للغزو والكتمان واذا بحاطب بن أبى بلطعه رضى الله عنه يخرق أسوار الحيطة والكتمان ويرسل لأهل مكة يخبرهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز لغزوهم والمسير اليهم وكتب بذلك الى أهل مكة وأعطى الكتاب لامرأة قال لها أخفيه ما استطعتِ ولا تمرى على طرق مأهولة فإن عليها حراسا فجعلت الكتاب فى رأسها وفتلت عليه شعرها ثم خرجت به فسلكت به طرقا تبعد عن النقباء ويذكر السهيلى أنه كان فى كتاب حاطب بن أبى بلطعه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه اليكم بجيش كالليل يسير كالسيل وأُقسم بالله لو سار اليكم وحده لنصره الله عليكم فإن الله منجز له ما وعده فيكم فهو ناصره ومؤيده ويروى أن عدة الجيش كانت أكثر من عشرة آلاف وما ذاك الا بتأثير صلح الحديبية ونتيجة له - وذلك فى رأيى - حيث أنه بعد صلح الحديبية أمن الناس وأصبح الناس يُكلم بعضهم بعضا بلا خوف أو حرج وبذلك أتيحت فرصة للمسلمين ليعرضوا الدين فى اطمئنان و روية فأمن الناس ودخلوا فى دين الله أفواجا وأسلم فيما بين الحديبية وفتح مكة أضعاف من دخل قبل ذلك وهذا بفعل ديناميكية الدين الجديد وهذا ما أدركه الغرب وافتعل وغذى الجماعات الارهابية حتى يقدم صورة سيئة عن الاسلام.

وجاء الخبر من الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما صنع حاطب فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبى طالب والزبير بن العوام والمقداد بن الاسود وأمرهم  رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدركوا امرأة قد كتب معها حاطب كتاب الى قريش يحذرهم فيه مما أجمعنا لهم فى أمرهم وقال لهم انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ - مكان قرب حمراء الاسد - فإن بها ظعينة معها كتاب فخرجوا وأدركوها فاستنزلوها فالتمسوا فى رحلها فلم يجدوا شيئا وقال لها علي بن ابى طالب " أقسم بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كذبنا ولتخرجن الكتاب أو لنكشفن فلما رأت الجد فى كلامهم قالت اعرضوا عنى فحلت شعرها فاستخرجت الكتاب فدفعته الى علي بن أبى طالب وأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم واذا هو الى أناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم بأمر النبى صلى الله عليه وسلم وتعال معى نتأمل هذا الحوار الهادئ بين رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنه قال لحاطب بن أبى بلطعة فى هدوء ملفت للنظر يا حاطب ما حملك على هذا قال حاطب والله يا رسول الله ما غيرت ولا بدلت وإنى مؤمن بالله ورسوله ولكنى كنت امرء ليس لى فى القوم من أصل ولا عشيرة ولى بين أظهرهم ولد وأهل فأردت أن يكون لى صنيعة عندهم وفى رواية أن حاطباً قال يا رسول الله لا تعجل على فإني كنت امرءً ملصقاً فى قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم قرابة يحمون أموالهم بها وأهليهم بمكة ولم يكن لى قرابة، فأحببت اذا فاتنى ذلك من بينهم أن أتخذ فيهم يداً أحمى بها قرابتى وما فعلت ذلك كفرا بعد اسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنه قد صدقكم) فقال عمر بن الخطاب لحاطب قاتلك الله! أترى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بالانقاب وتكتب الى قريش تحذرهم؟ دعنى يا رسول الله أضرب عنقه فإن الرجل قد نافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(ما يدريك يا عمر أن الله عز وجل اطلع الى أصحاب بدر يوم بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) - وأرجوك ألا تفهم من قوله صلى الله عليه وسلم (مايدريك يا عمر) راجع الى قوله ان الله عز وجل اطلع الى أهل بدر فذلك لا يحتاج الى استفهام إذ الواقع أن الله اطلع على أهل بدر ولكن هذا الاستفهام مرده الى سيدنا عمر نفسه -فاغرورقت عينا عمر وقال الله ورسوله أعلم حين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى أهل بدر ما قال.

 قلت لك تأمل هذا الحوار الهادئ حيث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أن قائداً غيره كان أولى من عمر بشدته فى معالجة الموقف حيث أنه بذل قصار جهده فى الاخفاء والحذر فقد أمر السيدة عائشة أن تخفى أمرها واتخذ حراسا على الانقاب وفجأة يرى أحد رجاله يرسل الى عدوه يفشى أمره لكنه صلى الله عليه وسلم فهو الذى وصفه ربه بقوله فى كتابه (وإنك لعلى خلق عظيم) وقوله (بالمؤمنين رؤوف رحيم) وكما أطلعه الله على أمر حاملة خطاب حاطب ومكانها فقد أطلعه الله على ما فى قلب حاطب من إيمان حيث قال صلى الله عليه وسلم بعد أن سمع قول حاطب أردت أن أتخذ فى قريش يداً أحمى بها قرابتى وما فعلت ذلك كفراً بعد اسلام حيث قال صلى الله عليه وسلم (إنه قد صدقكم) فذلك منتهى الحزم والرشد من قائد حكيم رشيد وليس التهور والاندفاع بمجدٍ نفعاً فى مثل ذلك الموقف كما قال المتنبى:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا        مضر كوضع السيف في موضع الندى

 

    وأنزل الله سبحانه وتعالى آيات فى سورة الممتحنة تقول:( ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً فى سبيلى وابتغاء مرضاتى تسرون اليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداءاً ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير) الممتحنة (الايات 1،2،3).

ولما أجمع النبي صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة بعث أبا قتادة بن ربعي إلى بطن إضم ليظن الظان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه إلى تلك الناحية ثم أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى قريش واستخلف على المدينة       أبا رُهم كلثوم بن حصين الغفاري  وأرسل إلى أهل البادية ومن حولهم من المسلمين يقول لهم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة ثم بعث رسلا في كل ناحية حتى قدموا عليه وخرج صلى الله عليه وسلم من المدينة لعشر خلون من رمضان ونادى مناديه من أحب أن يصوم فليصم ومن أحب أن يفطر فليفطر وصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج في المهاجرين والنصار وطوائف من العرب وقادوا الخيل وامتطوا الإبل وقدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه الزبير بن العوام في مائتين من المسلمين ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم البيداء رأى سحابة في السماء قال فيما روي عنه ( إني لأرى السحاب يستهل نصر بني كعب ) ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم العرْج - قرية على بعد ثلاثين ميلا من المدينة- وهو صائم صب الماء على وجهه ورأسه من العطش ويروى عن أبو هريرة أنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج يصب الماء على رأسه وهو صائم ولما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرْج وكان بين العرْج والطلوب - ماء بين مكة والمدينة - رأى كلبة تهر عن أولادها وهن حولها يرضعنها فأمر صلى الله عليه وسلم جميل بن سراقة رضي الله عنه أن يقوم حذائها حتى لا يتعرض لها أحد من الجيش ولا لأولادها وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول  (إنما أنا رحمة مهداة) وإلى لقاء آخر